Aug. 27, 2023, 1 p.m.
كتب: محمود الداوود- عمَان
من منا لا يعرفه من صوته؟ بمجرد أن تسمعه تعرفه، إنه صوت “يعقوب” في مسلسل “يوسف الصديق"، تميز به كأعمال أخرى فوضع من خلالها بصمته.
بيير داغر، نجم لبناني عربي بل عالمي بأدائه الراقي، المذهل، بهدوئه الشامخ وعنفوانه الهادئ! هو يجمع بينهما من دون عناء، لأنه يعيش الدور بتفاصيله، لأنه صادق، فيصلك صدقه ويدهشك، وتدرك تماما وأنت تتابعه أنه درس الشخصية وشربها، فيعطيك التغذية الراجعة أداءً سلسا بإتقان يجعلك تتابع العمل لأنه فيه.
البعض في أعمالهم تحصيل حاصل، لكنه في أعماله رقم نادر، ووتر رنان، وضوء ساحر.
ذلك لأن الفنان الحقيقي هو الذي يمتلك عدة أمور أولها القدرة على الوقوف أمام الكاميرا، وثانيها التعامل مع نص الحوار بحرفية واتقان، وثالثها التعامل مع نص يعيش فيه وكأنه جزء منه، وعلى الفنان أن ينسى أنه أمام كاميرا وإنما يعيش اللحظة بكل تجلياتها حتى يبدو حقيقيا أمام الجمهور وغير متكلف.
هذا هو بيير داغر الذي يجعل من التمثيل حقيقة بكل انفعالاته ونظراته وحركاته بل وتعابير وجهه، وهذا هو الاحتراف بعينه الذي من أهم ميزاته أيضا البساطة في كل شيء، وأضف إلى هذا كله نبرة صوته المنسجمة مع الشخصية في المشهد والمنسجمة معها حتى لو كانت فقط صوتا عبر دبلجة ما، تماما كما عرفناه في دور “يعقوب” على سبيل المثال، كما ذكرنا سابقا.
بيير داغر الذي جسد شخصيات متعددة في العديد من المسلسلات نذكر منها: البواسل، العوسج، جنكيز خان، البحث عن صلاح الدين، فارس بني مروان، خيبر، خاتون، الإمام، 2020، عصر الجنون، بارانويا، وأعمال مدبلجة مثل فنجان الدم، ورايات الحق، وأعمال مسرحية منها مسرحية “تشي جيفارا”، والعديد من الأعمال المميزة.
أُنظر إليه مثلا في مسلسل “الإمام” الذي جسد فيه دور الخليفة المعتصم وهو يلبي نداء تلك المرأة التي صرخت “وامعتصماه”.. تراه هنا لا يمثل بل هو يعيش الشخصية بأدق تفاصيلها، ليصرخ بأعلى صوته “لبيك يا أختاه”، إنه الاحتراف والإبداع الذي لا يجعل بينك وبين الشخصيات التي يؤديها أي حاجز.
هل استمعتم إليه وهو يقول الشعر؟ وهو يتلو أبيات الشعر بإحساس عال ودقة في مخارج الحروف وبأسلوب راق وصوت نقي، فالفن ليس مجرد أداء لدور ما وبقراءة جملة ما، إنما الفن إحساس وصدق وعطاء ونغمات صوتية وحركات وجه وإيماءات جسدية، وقلة هم الذين يجيدون هذا كله، قد يجيد بعضهم قسما هذه الميزات لكنه قد يفتقد إلى إحداها هنا أو هناك، لكن بيير داغر يجيدها كلها وهو من أوائل المبدعين المتميزين، هذا التميز جعل قناة “ناشيونال جرافيك” تستعين به كثيرا في أفلامها الوثائقية لنبرة صوته المميزة والمعبرة.
هو نجم يستطيع أن يجعل من إحساسه ناطقا، فكيف ينطق الإحساس؟ هو يجعله ينطق لأن فيض المشاعر تتدفق بكل صدق وعفوية، فيدهشك وأنت تتابع المشهد وتعيش مع اللحظة بكل جوارحك.
الكلام الكثير عن بيير داغر ليس هو الهدف إنما هو تسليط الضوء (بعدالة) نحو هذا النجم المتواضع والمتميز بدون ادعاء أو تسلق، هو نجم عالمي بقالب عربي لبناني وفنان عربي بنكهة عالمية، ما عليك إلا أن تتابع أعماله لتشاهد بنفسك إبداعه حتى لو لم نقل نحن عنه شيئا، لكن من باب الإنصاف وجب علينا قول ما قلناه.
بيير داغر نجم من ذلك الزمن الجميل.. زمن عبد المجيد مجذوب وإلسي فرنيني وهند أبي اللمع وعمالقة ذلك العصر، لكنه جاء في عصرنا ليكمل مشوار الكبار ويقول إن في لبنان دائما هناك كبار يتجددون.. فكم نحن محظوظون أننا في زمن بيير داغر.
وقبل أن أختم هذا المقال وددت القول أنني حين أردت الكتابة عن هذا النجم الكبير تعمدت أن لا أقرأ ما كتبه غيري عنه، حتى لا أتأثر بما كتبوه وكي أكتب ما شعرت به شخصيا بعد أن شاهدت له بعضا من أعماله فكتبت ما أملاه علي ضميري.
إنه علم من أعلام الفن الراقي يقدم نفسه بجهده غير معتمد على الإبهار ولا على السوشيال ميديا ولا بالادعاء، إنما بالصدق والإخلاص والعطاء، ولمثل هذا الفنان نرفع التحية.